تحالف إسرائيل و مصر: تكيف جيو بوليتيكي أم انقلاب جيو استراتيجي؟

هل تحالف تكيف جيو بوليتيكي أم انقلاب جيو استراتيجي؟

مصر أبـوهـا التــاريــخ وأمـهـــا الجـغــرافـيـــا

درجــة الانـحـــــدار

إتـجـــاه الانـــحـــدار

من التكتيك السياسي إلى الانقلاب الجيوستراتيجي؟

إنـتـــقـــــام الجـــغـرافـيـــا

تعرف الجغرافيا السياسية Political Geography بأنها دراسة الأبعاد المكانية للسياسة والمؤسسات السياسية، بينما تعرف الجيوبوليتيك Geopolitics بأنها تحليل التأثيرات الجغرافية على علاقات القوة في العلاقات الدولية، كما تم صكها مع بداية القرن العشرين.

مصر أبـوهـا التــاريــخ وأمـهـــا الجـغــرافـيـــا

ما كان أبوه التاريخ وأمه الجغرافيا، فهو من صنع الطبيعة وصلبها، هكذا وصف جمال حمدان مصر، لذا كان من الطبيعي عبر تاريخها المتعدد الألفية، وكأقدم حضارة في التاريخ بعد اكتشاف الزراعة فيما بين النهرين، أن تنعم مصر بنور عصور الازدهار، كما قدر لها أن تقاسي ظلمات عصور الانحدار. ويمكن بقدر من السهولة أن نفترض أن انحدارها الحالي في عصر مبارك من حيث الدرجة والشدة، أمر شبه متفق عليه أنه الأسوأ في تاريخها الحديث، وتحديدا منذ اتفاقية السلام مع إسرائيل في كامب ديفيد، وذلك بالمعايير التنموية من أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية. ومن ناحية أخرى قد لا يكون من السهل الحكم على ذلك الانحدار من حيث الاتجاه: هل هو انحدار ما قبل الصعود كما يردد النظام من 28 عاما، أم هو انحدار ما قبل الانهيار كما يؤكد المعارضون؟. مثل ذلك التنبؤ تحدده ضرورات جيوبوليتيكة، بمعنى جغرافية السلم والسياسة، وتحكمه في النهاية ضوابط جيواستراتيجية، بمعنى جغرافية الحرب والعسكرية، أي طبيعة الصراع الإنساني. بمعنى آخر، فالأولى أقرب إلى الدراما، والثانية ألصق بالمسرح كما يصيغها بإبداع الدكتور جمال حمدان.

درجــة الانـحـــــدار

وصل عائد النمو الاقتصادي الذي بلغ 7.6 % قبيل الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي ضربت العالم بأواخر 2008، ولم ينعكس عائد هذا النمو Trickle Downعلى التنمية الاجتماعية بواسطة اليد الخفية لآدم سميث! كما وعد فرسان الليبرالية الجديدة في مصر مبارك، بل على العكس تماما، حيث لايستطيع النظام الحاكم نفسه أن ينكر، ففي اتساق مع نتائج الرأسمالية المتوحشة في ظل العولمة باتساع العالم كله، زادت حدة الاستقطاب في المجتمع المصري، وأثرت قلة قليلة جدا بشكل غير منطقي، وازداد فقر الغالبية العظمى من حيث الشدة عموما، واتسعت رقعة الفقر من حيث الشمول بانضمام معظم الطبقة المتوسطة إلى طابور العيش المدعم. بذلك تكون التنمية الشاملة في مصر مبارك قد فقدت المعنى الاجتماعي والإنساني من وراء تحقيق أرقام مالية واقتصادية. وإذا ما راجعنا المؤشرات العالمية في قياس موقع مصر مبارك من بقية دول العالم، فسنجد المؤشرات محزنة في أغلبها، مخجلة في بعضها، ونادر أن تكون مشرقة، فمثلا يشير تقرير socialwatch.org للعام 2007 إلى:

” إن انكماش دور الدولة في مصر مبارك قد تدنى بمستوى الرعاية الاجتماعية، وأن عقودا من تحرير الاقتصاد وسياسات التعديلات الهيكلية قد تدنت بمستوى ما كان ذات يوم نظام رعاية وحماية اجتماعية متطورة. إن معظم اصحاب المعاشات لايغطي معاشهم احتياجاتهم الحياتية اليومية، بينما يتحول عبء الرعاية الصحية تدريجيا إلى كاهل الأفراد، وحتى التأمين الصحي الحكومي قد تم خصخصته جزئيا. هذا بينما يخلق معدل الفقر المتزايد وعدم المساواة تناقضات تهدد بالدخول في انتفاضات اجتماعية ذات نتائج كارثية.”

نشرت الأهرام ويكلي في يوليو 2008 التقرير الخامس للتنافسية في مصر ( ECR) والصادر من مجلس التنافسية الوطني المصري، والذي يشير إلى أن مصر على مؤشر التنافسية العام GCI قد هبطت من المركز 71 إلى المركز 77، وأنها تحتل المركز 124 من 131 دولة في مكون الاستقرار على مستوى الاقتصاد الكلي، وأنها حصلت على تقدير ضعيف جدا في جودة التعليم الابتدائي حيث تحتل المركز الـ 126 من 131 دولة، بينما تحتل بجدارة قاع مؤشر كفاءة سوق العمل في المركز 130 من 131 دولة.

أما مؤسسة .freedomhouse.org، فقد نشرت قياس الحكم الرشيد لمصر مبارك (أكتوبر 2008)، كالتالي:

تعطى أعلى نقاط وتبلغ (7 ) لأفضل أداء و (0 ) لأسوا أداء حكومي:

المسائلة وتأثير الرأي العام 1.88 من 7

الحريات المدنية 2.06 من 7

تطبيق حكم القانون 2.65 من 7

محاربة الفساد وتطبيق الشفافية 1.72 من 7

بينما تشير منظمة socialwatch.org إلى أن درجة مصر مبارك على مؤشر المقومات الأساسية لعام 2008 (المؤهل لتحقيق أهداف الألفية Millennium Development Goals (MDG) كما أعلنته الأمم المتحدة) هي 88.4 نقطة، بينما حصلت إسرائيل على 99.8 نقطة، والأردن على 99.2 نقطة. وفي قياس الانفاق العسكري، فمصر مبارك تنفق 2.08 من إجمالي الناتج المحلى GDP بينما تنفق إسرائيل 8.62 من الـ GDP، هذا مع العلم أن إجمالي الناتج المحلى الإسرائيلي GNP يفوق نظيره في كل من مصر والأردن وسوريا ولبنان وفلسطين مجتمعين!. أما المؤشر ذو الدلالة الخاصة على المستقبل فهو الإنفاق من إجمالي الناتج المحلى على البحوث والتطوير، فحين تنفق مصر 0.19 %، تنفق إسرائيل 4,46 %، مع الفارق السابق بيانه بين الناتجين لصالح إسرائيل.

كان هذا قياسا لدرجة وشدة الانحدار لمصر مبارك بالمقاييس العالمية، ولا تعليق.

إتـجـــاه الانـــحـــدار

بعد أن تبينا شدة انحدار مصر مبارك سياسيا واجتماعيا، إذا أردنا أن نستكشف اتجاه ذلك الانحدار، يجب أن نتبع المنهج العلمي كما بينه جمال حمدان في كتابه شخصية مصر، حيث يجب أن نخضع أولا مورفولوجية (ملامح وشكل) التاريخ المصري لمورفولوجية الجغرافيا، ثم نحلل المبادئ الاستراتيجية الحاكمة، حتى نصل في النهاية إلى القوانين العامة والدائمة في استراتيجية مصر جميعا. بهذا القياس فإن ما يحدث لمصر الآن ، هل هو استثناءً في التاريخ من حيث اتجاه الانحدار، بمعنى أن مايحدث الآن هو انقلاب يحدث لأول مرة في تاريخها، حيث يسجل شذوذا جيواستراتيجيا (جغرافية الحرب والعسكرية) غير مسبوق في التاريخ، وذلك على وجهين يتمثل أولهما في الشذوذ عن طبيعة تفاعلها مع الصراع بين قوى الهيمنة الكونية، وثانيهما في الخروج على طبيعة جيوبوليتيكا (جغرافية السلم والسياسة) المنطقة.

من التكتيك السياسي إلى الانقلاب الجيوستراتيجي؟

أظهرت معركة حزب الله ضد العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان 2006، ومعركة غزة 2008-2009 ، مدى قرب أو ابتعاد الموقف المصري من القضية العربية المركزية فلسطين وهوامشها في احتلال إسرائيل للجولان وشبعا اللبنانية، واقترابه من الموقف الإسرائيلي. ولكن الموقف المتشدد مع إيران أثناء مؤتمرات الخليج، وأخيرا المعركة الإعلامية الأخيرة ضد حزب الله، قد أكدا بوضوح شديد شكل التحالف الجيوستراتيجي لمصر مبارك مع إسرائيل ضد إيران. من منظور جيو استراتيجي يأتي ذلك التحالف، بعد أول انتصار ملموس لجيش مصر في أكتوبر 1973 على ذلك العدو: إسرائيل، وحيث كان من المفترض أن تستثمرمصر ذلك الانتصار في تعزيز ثقلها الجيوبوليتيكي، وفي تقوية دورها القائد في المنطقة كمركز دائرة،

“كانت مصر دائما مركز دائرة، مركز دائرة قلت أو كبرت، ضاقت أو أو اتسعت، ولكنها دائما دائرة لها محيط وأبعاد وهي مركز ثقله وجاذبيته ولها الدور القيادي فيه. بإيجاز حاسم، كانت مصر دائما قطب قوة وقلب إقليم. فحتى وهي مستعمرة محتلة، ومهما كانت أوضاعها الداخلية، فلقد كانت مصر – للغرابة والدهشة- مركز دائرة ما وليست على هامش دائرة أخرى….ولا شك أن هذه الصفة الجوهرية، التي تكاد تنطوي على متناقضة مثيرة، ترتد إلى جذور جغرافية أصيلة وكامنة في كيان مصر تستدعي البحث والتحقيق.” جمال حمدان – شخصية مصر

وبدلا من ذلك تتخلى مصر مبارك عن المركز، وتنزوي على حافة الدائرة الاسرئيلية في شذوذ جيوستراتيجي وتاريخي، أعتقد أنه يرتكز على التكنولوجيا الغير مسبوقة في تحقيق القوة والسرعة والدقة، والتي تربط المركز الإسرائيلي المتقدم بالمركز الرئيسي بواشنطن. ولكن هل ماتت الجغرافيا؟ هذا ما سنعرض له بنهاية المقال. ومن جهة أخرى يضيف جمال حمدان محللا تكتيك مصر في تحقيقها لنفسها اتزان تاريخي دائم بين القوى الكبرى :

“…كان هناك دائما عدو بعينه يتربص بها يتمنى ويعمل على سحقها ويرى فيها موطن الخطر ومكمن القوة ومفتاح المنطقة. ثمة كان الصليبيون والمغول في القرون الوسطى، ثم كان الانجليز منذ محمد علي (هل نضيف الولايات المتحدة اليوم؟). تاريخ مصر الحديثة، مثلا، ليس في رأي البعض إلا محاولة مستمرة من جانبها لإقامة قاعدة قوة ذاتية مؤثرة،تقابلها محاولة مضادة من جانب القوى العظمى مجتمعة أو فرادى لإجهاض تلك المحاولة وإحباط قيام قاعدة القوة المصرية. وخلال هذا الصراع أو المبارزة الاستراتيجية كان تكتيك مصر هو لعبة التوازن بين تلك القوى ومضاربتها ببعضها البعض، وذلك على شكل تحالف دائما مع الدولة العظمى الثانية ضد خطر الدولة العظمى الأولي. …مصر مع بريطانيا لطرد الحملة الفرنسية، مصر مع فرنسا ضد بريطانيا أيام عدائها لإمبراطورية محمد علي،ثم أيام الاحتلال لمقاومته وطرده. مصر مع الاتحاد السوفيتي ضد الولايات المتحدة أيام عدوانية الاستعمار الجديد في الخمسينات والستينات الأخيرة، ثم أخيرا مصر مع الولايات المتحدة ذد الاتحاد السوفيتي ودعوى خطر الهيمنة في السبعينات.”

فماذا حدث؟ أعتقد أن خللا استراتيجيا لهذا التوازن التاريخي لمصر قد حدث عندما استشرف السادات بحس تاريخي نادر، عدم جدوى الاتحاد السوفيتي قبل سقوطه بأكثر من عشر سنوات، ووضع كل بيض مصر (99%) في سلة أمريكا، وبالتالي إسرائيل، بعد معاهدة السلام في كامب ديفيد 1979. إلا أن السادات قال بوضوح شديد، وقد سمعته بنفسي مع الشعب المصري كله يقول ما معناه:

” إن استكمال الصراع مع إسرائيل هو مهمة الأجيال القادمة، لآن الصراع طويل، وأن جيل أكتوبر قد فعل ما بوسعه في زمانه.”

بمعنى أن مصر السادات انقطع نفسها بعد أكتوبر 73، ولم تعد قادرة على مواجهة أمريكا بدون الاتزان بقوة كونية أخرى. هذا منطق يمكن فهمه من باب التقية الاستراتيجية إن جاز التعبير، وبناء عليه تأمل الأجيال التالية إصلاح هذا الخلل في حال عودة الاتزان للقوى الكبرى، كطبيعة التاريخ البشري عموما، ولكن الذي حدث هو أن مبارك، رغم ثبوت خطأ نهاية التاريخ لفوكو ياما نظريا بالرد عليه، وعمليا بعودة روسيا بثبات وقوة بعد تجديد شبابها، وبعد التأكد من بزوغ النجم الصيني واضحا في سماء الشرق؛ أخذ مسارا انقلابيا وحادا في التحالف المباشر مع إسرائيل وأمريكا في دورة صراع جيواستراتيجية جديدة، وهذه المرة ضد إيران، تماما مثل دورة السادات السابقة ضد الاتحاد السوفيتي. والفرق بين الدورتين هو أن موازين القوى قد عادت لتتسق مع حقائق الجغرافيا وطبيعة التاريخ، فإيران كقوة إقليمية، تستند إلى واقع جيواستراتيجية أوراسيا، وهو واقع لن تسمح بالمساس به أي من روسيا الصاعدة أو الصين المراقبة، فيما أعتقد. بمعنى أصح فإن كانت مصر السادات قد هادنت أو حتى تهاونت في ظرف استثنائي تمثل في خلل الموازين بين القوى الكبرى، وأخلت بالتاريخ الجيواستراتيجي لمصر، فإني أعتقد أن مصر مبارك قد قلبت جيواستراتيجية مصر رأسا على عقب، في مغامرة هي ضد الجغرافيا قبل أن تكون ضد تاريخها السياسي، وأعتقد أنها مغامرة، طالت أم قصرت، ستنتهي بالفشل، وعمر الشعوب يقاس بآلاف السنين، حتى لو بلغ حكامها المائة سنة.

إنـتـــقـــــام الجـــغـرافـيـــا

نشرت مجلة السياسة الخارجة Foreign Policy في عدد مايو – يونيو 2009، مقالا ثريا للكاتب الأمريكي الصهيوني روبرت د. كابلان Robert D. Kaplan، بعنوان “انتقام الجغرافيا”، يستدعى فيه الكاتب النظريات والأفكار الجيوبوليتيكية التي صنعت سياسات العصر الفيكتوري، وتم التخلي عنها فيما بعد، مثل نظرية السير هالفورد جون ماكندر SIR HALFORD JOHN MACKINDER، أحد أهم الجيوستراتيجيين في مطلع القرن العشرين، صاحب نظرية صراع البر والبحر حول قلب الأرض (Heartland) في أوراسيا. يرى كابلان أن الوضع القائم الآن في أوراسيا بعد التغيرات التي أحدثتها التكنولوجيا والنمو السكاني قد أحدثا انقلابا يشكل ثورة للجغرافيا. ويعترف كابلان بخطأه شخصيا في تأييد الحرب على العراق، لأن الجغرافيا والبشر قد حسما الأمر ضد أمريكا في العراق، وبالتالي فهو يدعو إلى إحياء أفكار أولئك الجيوستراتيجيين العظام الذين نادوا بحتمية الجغرافيا، وإن لم يذهب معهم كابلان في تمام الحتمية، وإنما يطالب، بعد الاعتراف بقوة تأثيرها وضرورة احترامها مع سكانها من البشر في دورهم في صنع التاريخ، يطالب بتطويعها حتى يمكن للغرب تحقيق السيطرة على أوراسيا طبقا للرؤية الماكندرية، بدءا من دول الحافةLand Rim التي تمتد من إسرائيل إلى كوريا، أو الشرق الأوسط الكبير حسب رأيه,

بغض النظر عن مؤهلات كابلان – المجند السابق في جيش الدفاع الإسرائيلي- المتمثلة في سعة علمه الأكاديمي التي لا أدعي مجاراته فيها، ومعرفته الميدانية العميقة بالعالم العربي والإسلامي طوال عشرين عاما , والتي أدعي معرفتها خيرا منه، فإنه بقدرته التحليلية الواضحة، يوظف كل ذلك في مقاربة واقعية ميكافيلية لخدمة المشروع الصهيو- غربي، باستغلال “انتقام” الجغرافيا لصالح استراتيجية الهيمنة الأمريكية، أو بتعبيرهو: ” للمبادئ الليبرالية في العالم لتكون أكثر كفاءة”. ويخلص إلى أن العائق الرئيسي لهذه الاستراتيجية هو إيران، ويؤكد:

“إن المعركة من أجل أوراسيا لها جبهات متشابكة باضطراد. ولكن الجبهة الأساسية هي من أجل العقول والقلوب الإيرانية، تماما كما كان الحال مع أوروبا الشرقية أثناء الحرب الباردة.”

هكذا نرى الهدف الأولي للهجمة الأمريكية للاستحواذ على أوراسيا بعد العراق هو إيران، ولعل ذلك يوضح الهدف من كل التحركات والتوجهات التي نراها لمصر مبارك. ولكن كابلان يؤكد من ناحية أخرى:

“إن إنكار حقائق الجغرافيا فقط يستدعي الكوارث التي، بدورها، تجعلنا ضحايا للجغرافيا.”

من الضروري أن أذكر أن كابلان في تحليله لجغرافية وبشر معظم دول الشرق الأوسط الكبير كما يسميه، والتي خلص منها إلى أن المنطقة تحتوي على كثير من “أجزاء هشة” shatter zone حسب تعبيره. تلك الأجزاء الهشة هي المرشحة للتفكك وتدمير الحدود الوطنية الحالية لكل دولة، وذلك طبقا لطبيعة الأرض بين جبال وسهول وصحارى وحضر،ثم بين أعراق وديانات ومذاهب وقوميات. وفي كل ذلك لم يتعرض أبدا لجغرافية إسرائيل التي هي ضد المنطق الجغرافي، كما يقول هو عن جغرافية العراق ودول أخرى في المنطقة!!، كما لم يتعرض إطلاقا لجغرافية مصر أو شعبها في منحى لايمكن تجاهله، فمصر هي مصر بعبقرية موقعها وقوة موضعها. إن هناك في مقال كابلان الطويل وتحليله الشامل، سكوت واضح عن أهم مركزين جيواستراتيجين: مصر وإسرائيل، بعد سقوط بغداد، إلى جانب المركز التركي والمركز الإيراني، وهي المراكز التاريخية التي تناوبت زمام القوة في المنطقة عبر التاريخ، بالطبع عدا المركز الطارئ إسرائيل. هل يمكن فهم هذا السكوت المتعمد لأن إسرائيل ومصر – بالترتيب – هما طرفا التحالف الجيوستراتيجي الجديد؟.

إن مصر التاريخية لايمكن، ولايصح جيوستراتيجيا أن تدور في فلك المركز الإسرائيلي الشاذ مهما بلغت قوته العسكرية، وإذا كان هذا الانقلاب الجيوستراتيجي يعتمد في بعد آخر على استبدال الجيوستراتيجي بالجيوإيكونوميك (الجغرافيا الاقتصادية) ممثلة في الاندفاع إلى التحالف للاستفادة من قوة المال اليهودي التاريخية، وإلى التمسح في الانتماء للخليج لسهولة تأليبه وشحنه ضد إيران، ولنيل جزء من ثورة وثروة البترول المؤقته، فإني أعتقد أن هذا المنظور يعتبر قصير النظر جدا وضد مصلحة مصر القومية على المدى البعيد، وحتى إذا تصورنا أن مخططي ذلك الانقلاب الجيوستراتيجي لايقصدونه حقيقيا، وما هو إلا تقية إلى أن ييسرها الله، فإني أعتقد أن ثوابت الجغرافيا والتاريخ ليست مجالا للعب بالمتغيرات، وأن الجغرافيا إن عاجلا أو آجلا ستعود وتنتقم، لآن جغرافية مصر فريدة في نوعها كما حللها جمال حمدان، وأتصور صعوبة تطويعها أو تطويع أهلها كما يود كابلان، وكما قد يتصور أو يأمل أصحاب الانقلاب الجيوستراتيجي.

من المدهش والمثير أن جمال حمدان – ذلك العبقري – قد لخص كل ما يجرى الآن وأحاول أن أشرك القارئ في فهمي له، وكأنه يعيش اللحظة معنا حيث يقول بالحرف:

” إن تكن ” الجغرافيا وراء السياسة” مقولة صحيحة بعامة، فلعلها أصح ما تكون عن مصر بخاصة. فسياسة مصر الخارجية تعكس شخصيتها الاستراتيجية ربما أكثر مما تعرف أي دولة أخرى. وضوابط سياسة مصر الخارجية، شأنها شأن أي دولة، تتألف من مجموعة من الثوابت والمتغيرات. فعلى رأس الثوابت تأتي حقائق الجغرافيا والتاريخ، إن لم نقل الجغرافيا وحدها أو أساسا، فإنما “الجغرافيا هي قدر الأمم” كما وضعها ديجول، وهي كما عبر أيضا “العامل الثابت في صناعة التاريخ”. ولعل التاريخ بهذا أدخل في باب المتغيرات، أو على أية حال فإنه إنما يدخل دائرة الثوابت من حيث هو في جوهره “جغرافيا متحركة” أو “جغرافيا متراكمة”. أما المتغيرات فعوامل عديدة جد متباينة تمتد من ظلال التاريخ نفسه توا كما سبق، إلى توازن القوى العالمي والإقليمي السائد مرحليا، إلى الأحوال الداخلية وقدرات وتطلعات ومزاج الشعب السائد آنيا، إلى العامل الفردي البحت وبالتالي الشخصي غير الموضوعي نوعا ممثلا في القيادة السياسية…إلخ.”

ولآني أعتقد أن مزاج الشعب المصري الآن لايمكن أن ينسى دماء أطفال غزة، فيمكن استبعاده كفاعل أو راغب في ذلك الانقلاب الجيوستراتيجي في السياسة المصرية، ولايتبقي، طبقا لجمال حمدان، إلا المتغير الشخصي غير الموضوعي نوعا ممثلا في القيادة السياسية ليكون هو الفاعل. ولكن ما يطمئننا في تحليل ذلك التغيير أو الانقلاب، هو مطابقة ما يتنبأ به كابلان اليوم في 2009 عن انتقام الجغرافيا، بغض النظر عن دعوته لتطويعها لصالح المشروع الصهيو- غربي، مع ما قرره جمال حمدان من أن الثوابت هي التي تحدد في النهاية جيوستراتيجية مصر.

رحم الله جمال حمدان

المصدر: موقع يافا الاخبارى

1 comments

أضف تعليق